قراءة في رواية أمشاج للكاتبة كريمة عساس

بقلم: سناء بوختاش (باحثة في طور الدكتوراه)/ أستاذة مؤقتة في جامعة بسكرة

قسم اللّغة العربيّة وآدابها / مخبر تحليل الخطاب جامعة تيزي وزو/ الجزائر

رواية “أمشاج” هي رواية نسائيّة جزائريّة معاصرة، نفضت الغبار عن قلم المرأة، بتجاوزها الكتابة عن الذّات الأنثويّة ومعاناتها من الهيمنة الذّكوريّة، التي كادت تقتل إبداعها، وتأكّد قول الرّجل بأنّ المرأة ناقصة عقل، وكائن عورة، وأعادت للمرأة الجزائريّة المبدعة اعتبارها، حين سرحت بخيالها إلى الأفق البعيد، وفتحت كتابها على عوالم الكون وبحثت عن سرّ الوجود، وكشفت عن كوامن النّفس الإنسانيّة المسكوت عنها والتي لا يقبل الكثيرون النّبش في دواخلها.

 هي آلة مصورة لمعاناة الإنسان الدّاخليّة بسبب تفاقم الجراح، هي زبدة مخاض ناتجة عن إبداع الكاتبة التي أضافت إشراقة جديدة على المضامين التي نقلتها من اللّغة البسيطة العاديّة التي نألفها عند الكاتبة المرأة الجزائريّة، إلى لغة فلسفية تجاوزت المألوف، لتذهب بنا إلى تفكيك وتقويض كل تلك الحقائق الثّابتة.

وهو ما تهدف إليه نظرية ما بعد الحداثة، التي تودّ تقويض الفكر وتحطيم أقانيمه المركزيّة، بمعنى أنّ ما بعد الحداثة، قد تسلّحت بمعاوّل الهدم، والتّفكيك، والتّشريح، لتعرية الخطابات الرّسميّة، وفضح الإيديولوجيّات السّائدة المتآكلة، وذلك باستعمال لغة الاختلاف والتّضاد والتّناقض، وهو ما وجدناه في رواية “أمشاج” التي جسّدت لنا نوعا آخر من التّيمات هو الموت، لكن ليس أي موت، إنّما هو موت الخديعة المتمثّل في معاناة الإنسان من العنف المادي والرّوحي، الذي يعيشه بسسب الظّروف القاسيّة التي قضت على أحلامه، وهذا ما جعل من رواية كريمة عساس تشكيلا جماليّا يعبّر عن الرّاهن ويساير تحولاته وفق بناء خاص.

وهذا الموت الذي وظّفته في روايتها لا يعكس الموت الفيزيقي الذي هو مصير كل كائن حي على هذه الأرض، وإنّما هو موت طرح على شكل هاجس فلسفي يروق فكر الرّوائيّة، كما جعلته سؤالا مفتوحا للقارئ حتّى تفتح له من خلاله أفق واسعة للقراءة المأجّلة، التي تمنح إبداعها بعدا جماليّا مميزا يعكس ألم المأساة، وهذا الموت قبل أن يكون جسديّا هو موت معنوي.

إذن رواية “أمشاج” جاءت تجسيدا لموت معنوي أفرغ الذّوات من إنسانيّتها، تعيش حالة حصار شديد، لكن مع ذلك هذه الذّوات كانت على وعي عميق بهذا التّمزّق والتّشظي الذي سلخها من كيانها، كما كان الموت رمزا لظاهرة اليأس والتّشرد الذي عانت منه الشّخصيّات، لتبدأ رحلة العبثيّة واللاّاستقرار تضرب بجذورها في أعماق الرّواية، كما هي في أعماق الوطن العربي الممحون، الذي حاولت الرّواية أن تكشف عنه، لكن بأسلوب مراوغ ولم تصرّح به، وإنّما هدفت إلى إيجاد شرخ بين ما يصرّح به النّص وما يخفيه .

وبما أن العنوان هو العتبة الأولى التي تقودنا إلى عوالم النص، فإنّه لا يمكن تجاوزه هكذا دون الوقوف عنده والدّلو بما يحمله من معاني ودلالات، وعليه الكاتبة بإيرادها لهذا العنوان تشدّ القارئ من يده ليكشف عن عالم النّص، كما تكشف شخصيّاتها عن طريق الذّكريات وأوجاعها عن سرّ وجودها، والفرق الوحيد بين الرّوائيّة كريمة عساس وشخصيات روايتها، هو أنّ الكاتبة تكشف الحقيقة عن طريق القلم، في حين شخصيّاتها كانت الذّكريات ومآسيها ومعاناتها هي من عرّت الموت وكشفت حقيقته، لكن هذه الحقيقة لم تخرج من فضاء الوطن العربي الذي يعاني الموت.

 هذا الوطن الذي احتضن أبنائه وهم أمشاج ونطاف، كانوا يصارعون الموت في رحمه كي يخرجوا إلى النّور، وهكذا يتّضح لنا معنى عنوان “أمشاج” أنّه مأخوذ من القرآن الكريم جاء معادلا موضوعيّا لحقيقة ولادة الإنسان، وكيف يكون لحمة صغيرة ذات لونين أحمر وأبيض تنبض في رحم الأم حتّى تنتهي تسعة أشهر، ليخرج إلى فضاء الواقع كائنا مكوّن الأعضاء يتّصف بالبراءة.

 هنا نتساءل عن ما العلاقة بين العنوان “الأمشاج” ومتن الرّواية الذي يحكي عن العبثيّة وعن واللاّاستقرار وعن الموت المعنوي الذي يعاني منه الإنسان العربي؟

نقول أنّه هناك علاقة وطيدة بينهما كون الأمشاج هي المرحلة الأولى التي ينبض فيها قلب المولود، والوطن هو الآخر أطفاله الأبرياء هم أمشاجه ونطافه الذين يتأسسوا بهم، وهم من يمنحون له قوّته ويعزّزون وجوده وتكوّنه، وهو ما تحدثت عنه الرّوائيّة، حين كتبت بلقم منكسر القلب عن تشرّد وقتل الأطفال دون رحمة في فترة التّسعينات زمن العشريّة الحمراء، التي لم ترحم حتّى البراءة الذين يمثّلون مستقبل الوطن وجيله الصّاعد.

إذن الرّوائيّة كريمة عساس من خلال عنوانها “أمشاج” أرادت أن تكتب عملا إبداعيّا تطرح من خلاله فلسفة الحياة والموت في الوطن العربي عامّة، والجزائر خاصّة، حين جسّدت لنا الموت والقهر الذي عانه الشّعب الجزائري أيّام العشريّة، خاصّة الأطفال الأبرياء الذين مثلتهم في شخصيّة رؤوف صاحب العشر سنوات الذي كان شاهد عيان على هذه المأساة، والذي ذبح بالسّكين لكنه عاد من الموت بأعجوبة ومعجزة من اللّه، لكن مع ذلك هو لم يؤمن بهذه الحياة أبدا، وكان يرى فيها موتا لكن من نوع آخر، وهو الموت المعنوي.

حتّى ذلك اليوم الذي التقى فيه بمريم، تلك المرأة التي هي الأخرى عانت القهر، واليأس، وفقدت الأمل في الحياة بعد موت ابنتها أناييس صاحبة الثلاث سنوات، بسبب خطأ غير مقصود منها، وهي منشغلة بتحضير كعكة عيد ميلادها، فأعطتها قارورة ماء كي تروي عطشها، ونسيت أن تفتحها لها وتبلع الطفلة أناييس غطاء القارورة لتموت مختنقة، وتنتهي معها حياة مريم التي حاولت الانتحار لكن لم تفلح.

كان رؤوف ممرضا لها يتقصى أحوالها ويواسيها على فقيدتها، وفقيدها الذي رحل عنها دون عزاء، وهو زوجها الذي تخلى عنها ولم يراعي وجعها الكبير في فقدانها لفلذة كبدها، يرى رؤوف في حياة مريم أنّها شبيهة في حياته، فكلاهما يعتقد أنّهما إذا أرادا الحياة من جديد فلابدّ أوّلا من الموت..

بناء على ما تقدّم لم تكتب كريمة عساس عنوان الرّواية الإنسان العربي بين الموت والحياة، أو اللاإنسانية، وإنّما اتّخذت عنوان “أمشاج” معادلا موضوعيّا يعكس وجه الأبرياء الذين تم قتلهم، والهزيمة التي لحقت بالإنسان العربيّ بسبب البطش، والجوع السيّاسي الذي حاول وما زال يحاول الفتك بالوطن وامتلاك ما ليس ملكه.

إذن العنوان يعدّ أحد الرّكائز الأساسيّة التي يبنى عليها النّص، كونه في الرّواية العربية لم يعد يقتصر على البنية اللّغويّة فحسب بل تعداها إلى البنية البصريّة أو البنية الدّلاليّة، لما يحمله في مضامينه من جمال فنّي، لأنّ النّص هو المولد الفعلي لأبعاد العنوان الدّلالية والفكريّة، ووفقا لتناصيّة العنوان مع النّص.

أي أنّ  كلّ من العنوان والنّص يشكلان معادلا موضوعيّا كبيرا، فالعنوان أصبح مكوّنا دلاليّا، ومكوّنا بصريّا مهمّا في فضاء الغلاف، لما يحمله من تقنيّات تلفت انتباه القارئ، الذي يقوم فيما بعد بالبحث عنها، وكشف دلالاتها المخبّأة، وهذا ما جسّده عنوان رواية “أمشاج” الذي حمل العديد من الدّلالات والثنائيّات التي لعبت فيها اللّغة بإنسياباتها دورها بامتيّاز.

هذا كان بالنسبة للعنوان أمّا المتن فهو يتكون من مجموعة شخصيّات تدور حولها الأحداث وكانت شخصيّة رؤوف ومريم هي الشخصيّات البطلة، والمحرّك الفاعل للنّص الرّوائي الذي يرتبط بالزمن فيحتوي الحدث، ويحرك الشّخصيّة، وينهض بالمعنى، ويشكّل الرّؤيا، وينتج اللّغة، متحوّلا بديناميكيّة حركيّة دائبة من مجرّد إطار تزيني للأحداث، أو وعاء عام لها، إلى عنصر مشارك فعّال متعدّد الملامح والظّلال التي تعطي العمل الفنّي خصوصيّته.

فكلا الشّخصيّتين جاءتا نقمتان عن وضعهما في هذه الحياة التي لم تترك لهما متنفسا، وجعلتهما يحيا حياة الموت، رؤوف يعيش حالة نفسيّة حادة بسبب عودته من يوم القيّامة دون أن يموت مثله مثل والده ومن كان معه في الحافلة، رغم السّكين الذي نخر رقبته، ومريم هي الأخرى إنسان ميت ينبض قلبه للفردوس واللّحاق بمن كانت تحكيها حياتها ابنتها أناييس، التي غادرتها وهي مازالت نطفة لا تعرف من الدّنيا سوى أمها.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نصنّف هذه الرّواية ضمن الرّوايات ما بعد حداثيّة لأنهّا اشتغلت على سؤال الموت، وهو سؤال مفتوح أصبح يحضر كثيرا في النّصوص الرّوائيّة المعاصرة، لأنّه يخصّ كينونة الإنسان، فهذه الرّواية سعت إلى الكشف عن حقيقة الإنسان ومدى تعلّقه بانتمائه المكاني، رغم اكتشافه بأنّه مكان مليء بالسّوداويّة، إلاّ أنّه يمثّل لديه أحد محدّدات هويته الثّقافيّة، وكان للعامل النّفسي الدّور الكبير في تحديد هويّته كونه متشبّث بعادات وتقاليد وقيّم لا يريد تغييرها، يكفيه أنه خرج من رحمه.

 إذن نقول إنّها رواية تحكي عن انهيّار الأمة العربيّة، فهي تكاد تكون فشلا للشّرط الإنساني، وتأكيدا على مأساة الوضع البشري، لا مفرّ من القسوة، والألم، والعنف، والكره، والموت، والتبدّل الجارح، وذاك الشّعور الأصلي للإنسان، شعور المنفى بالمعنى الدّيني للكلمة (التوق إلى الفردوس)، والمأزق الوجودي، والأقدار الغادرة، فدلالة تشتّت الشّخصيّات التي كانت عصب الرّواية، وواجهتها، وصانعة صورها، وانهزاماتها، وسيّاستها، هي دلالة على خراب الوطن العربي وتفكّكه.

فالوطن العربي عامة، والجزائر خاصة فضاء متباين الأحداث متنوع الظّروف، عريض الخطوط، كثير التّفاصيل، متلاحم العلاقات، حميم الصّلات أحيانا، وأحيانا أخرى متوتّر الصّلات، متغيّر التّوجهات، موزّع الخبرات، شغل فكر الرّوائيّة فأصبح شغلها الشّاغل، وعشقها الدّائب، الذي لا ينفكّ عنها أبدا.

لأنّ الجزائر لها مذاق خاص، ونكهة خاصّة، وذكريات محفورة في أخاديد الذّات، وحكايات متغلغلة في الأعماق منذ الطّفولة إلى الآن، كونها لها مكانتها وأصالتها، إذن كريمة عساس صورت لنا من خلال روايتها الأوضاع الجديدة التي آل إليها الوطن العربي، فهي رواية مكتوبة بحسّاسية صادمة ولغة رفيعة تأخذ بقارئها منذ الصّفحات الأولى إلى أسئلة أساسيّة، وتضعهم أمام حقائق خراب الحياة العربيّة في ظل الأنظمة السّياسيّة التي استباحت وسلبت الإنسان حياته وإنسانيّته، ودمّرت أحلامه بوعود كاذبة.

 هي أيقونة للموت المكافئ للنّسيان، إنّها رواية عن ورطة الحياة بأعمق معانيها، تعود فيها الرّوائيّة إلى الكتابة جهرا عن كل ما هو مسكوت عنه في حياتنا العربيّة والحياة الجزائريّة خصوصا، هي رواية عن الأسى، والخوف، والموت الإنساني.

هنا الرّوائيّة تتماهى مع شخصيّاتها التي تناولت قضيّة ومسألة مهمّة تمسّ الوطن والوطنيّة، هي التّوتّر الذي يعيش فيه الوطن العربي عموما والجزائري خصوصا، بسبب الإحباط السّياسي، والاجتماعي، والإنساني، الذي يضيق عليه فرص تحقيق الذّات، فيغرق في لجّة الضّياع، والخيبة، والخذلان، ومنعكساتها المؤذيّة، فالرّوائيّة هنا تمزج لنا بين القوميّة، وخيبة الوجود، واشتراطاته القاسيّة.

 إذن الرّواية بنيت على أسطرة الواقع من خلال الإحالات الثّقافيّة، والاجتماعيّة، والسّياسيّة، عرضت فيها الرّوائيّة التّحوّلات الكبرى التي شهدها الوطن العربي، عن طريق المزج التّرميزي والاستعاري بين حال الشّخصيّات التي تعاني القهر، وحال الوطن الذي غرق في لجّة الضيّاع.

فالروائيّة أثناء كتابتها عن فضاء التشتت الذي يعاني منه رؤوف ومريم، كانت تصوّر لنا فضاء القهر، والفتنة، والعداء، والاقتتال، والإجرام، الذي كانت تمارسه الحزبيّة والطّائفيّة على الأهالي، تحت وطأة التّحوّلات السّياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة.

 إذن رواية “أمشاج” كتبت كترميز للموت الرّوحي، الذي نشر الرّعب والخوف مع الانغماس في العمل السّياسي التّهكمي، الذي قضى على طموحات الإنسان الذين يحلم بغد أفضل، وبسيادة وطنية عادلة.